فلسفة فريدريك نيتشه: البحث عن الذات خيار أم مصير؟

هل الذات خيار نُبدعه أم مصير نكتشفه؟ يستكشف هذا المقال تأملات نيتشه حول تشكيل الذات، داعيًا القارئ إلى خوض رحلة وجودية فردية تُبنى بالإرادة والشغف، لا بالتقليد أو الامتثال.

فلسفة فريدريك نيتشه: البحث عن الذات خيار أم مصير؟
هل أنت من تكونه؟ أم من يريدك الناس أن تكونه؟


في زمن تُفرَض فيه على الفرد قوالب جاهزة للنجاح والهوية، يبرز صوت الفلسفة — لا ليعطي إجابات، بل ليطرح أسئلة تمسّ الجوهر: من أنا؟ وكيف أكون ذاتي، لا صدى لغيري؟ في هذا المقال ، نغوص في أعماق الفكر الفلسفي لفهم الذات لا كشيء نكتشفه، بل كمشروع نبنيه، ونتشكّل فيه مع كل قرار، وانعطافة، ورغبة صادقة.
نيتشه هو أحد هؤلاء المفكرين الذين أعادوا تعريف الذات، ليس كمصير، بل كفنّ وجودي نُبدعه بأيدينا.


يرى الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه، فيلسوف القرن التاسع عشر، أن الذات الحقيقية ليست جوهرًا خفيًّا مكنونًا في أعماقنا، ننتظر أن نزيح عنه الحُجُب لنكتشفه، بل هي غاية وجودية ينبغي أن نسعى إليها سعيًا حثيثًا. فالذات ليست منحةً تُوهب، بل غاية تُنال بترويض الإرادة وصدق العزم. وفي هذا السياق، يسدي نيتشه نصيحته لمن رام أن يظفر بذاته الحقيقية.

الذات كصيرورة

كتب الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس: "لا تفسّر فلسفتك، بل كن مثالًا حيًّا لها."
قولٌ يبدو في ظاهره حكيمًا، غير أنّ السؤال الذي ينهض من بعده لا يُستهان به:
كيف أعرف ما هي فلسفتي في الحياة؟

كيف لي أن أُميّز القيم التي أُقِرّها وأصادق عليها بصدق؟
وكيف أتيقّن أن ما أريده هو ما أريده حقًّا، لا ما أظن أنّ الآخرين ينتظرونه منّي؟
وإن صغنا التساؤل بصيغة أخرى: إن كنت أشعر بشيءٍ من القلق الحائر حيال من أكون، فكيف أهتدي إلى ذاتي؟ وكيف أكتشف قيمي؟

يقدّم نيتشه جوابًا عميقًا على هذه الأسئلة في مقالته "شوبنهاور كمربٍّ"، وهي إحدى تأملاته "غير المناسبة" التي كتبها سنة 1874.

يذكّرنا نيتشه بأن الانسجام مع الذات لا يُمنح، بل يُكتسب، وأن الذات الحقيقية — في نظره — تعلو مقامنا الراهن، وتقبع في أفقٍ أبعد ممّا نحن عليه الآن.

فنحن لا نكتشف ذواتنا كما لو كانت خريطة مدفونة، بل نصوغها ممّا يتوافر لدينا من خامات أوليّة، وننحتها بوعيٍ وإرادة. ومن سُبل تجسيد هذه الرؤية أن ننظر إلى حياتنا بوصفها مشروعًا فنيًّا.
نبدأ كلوحةٍ فريدة، نصف مكتملة، تكتسب ألوانها الأولى من الأعراف الثقافية التي نرثها. ثم يأتي دورنا لنُشكّل هذه اللوحة، ونُضفي عليها من ذوقنا الجمالي، وربما نتجاوز بها حدود لوحة الألوان التي ألفناها.
فكلّ ضربة فرشاة تسهم في صياغة هذا العمل الفني، وكلّ خيار نتّخذه يُعيد تشكيل من نكون.

ويتساءل نيتشه:
ما الذي أحببته بصدق حتى هذه اللحظة؟ ما الذي ارتقت به روحك، واستسلمت له طواعية، وشعرت في ظله بالامتلاء والبركة؟

وما إن نجرؤ على مواجهة هذا السؤال، تبدأ معالم الذات بالتشكّل. فالمسألة ليست أن نبحث عن هويتنا كما لو كانت شيئًا ضائعًا، بل أن نصغي لما أوقد فينا شغفًا لا يُنسى، ونصوغ منه نواة كياننا.
هكذا تُبنى الحياة التي تستحق أن تُعاش — حين تتحوّل رغباتنا العميقة إلى مادة لتشكيل كُنه ذواتنا، فنُبدع منها عملًا يحمل بصمتنا، ونرضى بأن نوقّعه باسمنا دون تردّد.

تشكيل الذات بطريقتك الخاصة

كتب نيتشه في تأملاته:
"ثمة يقين دفين في أعماق كل إنسان بأنه كائن فريد، لا يتكرّر، لم يوجد له نظير من قبل، ولن يُركّب من جديد هذا المزيج العجيب الذي يمثله من التنوّع والوَحدة."

وعلى بساطة هذه الحقيقة — بل وعلى ما يبدو من طابعها المبتذل — فإنّها تظلّ جوهرية.
فلا أحد سواك قادر على أن يكون ما يمكنك أن تغدو عليه.
ولهذا، يرى نيتشه أنك مدين لنفسك بأن ترتقي إلى أقصى ما فيك من اكتمال، عبر استثمار مواهبك وقدراتك.

وكتب أيضًا:

"ليس بيد أحدٍ أن يبني لك الجسر الذي يجب أن تعبر عليه نهر الحياة، لا أحد سوى نفسك.
صحيح أن هناك عددًا لا يُحصى من الدروب والجسور التي تودّ أن تحملك إلى الضفة الأخرى، لكنها لا تفعل ذلك إلا بثمن ذاتك؛ إذ عليك أن ترهن نفسك لها، وتخسرها.
ثمّة طريق واحد في هذا العالم لا يرتاده أحد سواك. إلى أين يقود؟ لا تسأل؛ بل انطلق فيه، فهو دربك وحدك، وإن جهلت منتهاه."

لا يمنحنا نيتشه إجابات نهائية، بل يدفعنا إلى قلب السؤال على ذواتنا:
هل أنا مَن أكونه حقًّا، أم مجرّد صدى لما يُتوقّع منّي أن أكون؟

فليست الذات مصيرًا محتومًا، ولا خيارًا عابرًا، بل مغامرة فكرية، وجرأة على أن نحيا لأنفسنا، لا كنسخةٍ مكرّرةٍ من سوانا.

في فلسفة نيتشه، لا تكون الذات شيئًا يُمنَح أو يُكتَشف فجأة، بل تصبح مشروعًا حياتيًا طويل الأمد. إننا لا نعيش لنجد أنفسنا، بل لنصنعها. والصدق مع الرغبة، والجرأة في اتخاذ الدرب الخاص، والقدرة على مقاومة القوالب الجاهزة، هي أدوات هذا التشكيل. الذات في فكر نيتشه ليست تمردًا أجوف على المألوف، بل دعوة عميقة لأن نُراكم وجودنا لحظةً بلحظة، عبر ما نحبّ، ونعشق، ونكرّس له وقتنا ووعينا. هي مغامرة ذاتية لا تحتاج إذنًا من أحد، لكنها تتطلب شجاعة نادرة: أن نكون نحن، لا أحد غيرنا.